الخميس, أكتوبر 16, 2025
الرئيسية » ما هي صناديق المؤشرات وكيف أصبحت بلاك روك وفانجارد عمالقة الاستثمار؟

ما هي صناديق المؤشرات وكيف أصبحت بلاك روك وفانجارد عمالقة الاستثمار؟

ما هي صناديق المؤشرات وكيف أصبحت بلاك روك وفانجارد عمالقة الاستثمار؟

 

تثار في الأوساط المالية والسياسية حول العالم تساؤلات تثير القلق والدهشة في آن واحد. فبينما تتربع شركات التكنولوجيا العملاقة مثل أبل ومايكروسوفت وأمازون وإنفيديا على قمة الاقتصاد العالمي، تظهر ظاهرة غريبة تتكرر في قوائم أكبر الملاك والمساهمين في هذه الشركات. ثلاثة أسماء تظهر بشكل شبه دائم ومقرر: بلاك روك، فانجارد، وستيت ستريت. هذه الشركات، التي لا تنتج هواتف أو برمجيات، بل تدير رؤوس الأموال، أصبحت تمتلك حصصًا ضخمة في غالبية الشركات المدرجة في البورصات العالمية، من التكنولوجيا إلى العقارات، ومن الطاقة إلى الأدوية. هذه الهيمنة أثارت جدلًا واسعًا، ودفع البعض إلى نسج نظريات مؤامرة، زاعمين أن هذه الشركات ليست سوى واجهة لمجلس سري من “حكام الظل” الذين يديرون خيوط الاقتصاد العالمي من وراء الستار. لكن الحقيقة، كما هي الحال دائمًا، أكثر تعقيدًا وواقعية.

 

مبدأ تنويع الاستثمار.. الفكرة التي ولدت من رحم الخسارة

لفهم كيف وصلت هذه الشركات إلى ما هي عليه اليوم، يجب أن نعود إلى أساسيات عالم الاستثمار. لنفترض أنك مستثمر مبتدئ قررت أن تدخل سوق الأسهم بمليون دولار. يخبرك جميع الخبراء ودروس اليوتيوب أن تحقيق مكاسب كبيرة ومستمرة ليس بالأمر السهل. القاعدة الذهبية الأولى هي “لا تضع كل بيضك في سلة واحدة”. فالمستثمر غير الخبير لا يمكنه أن يضع كل أمواله في أسهم شركة واحدة، بغض النظر عن مدى قوتها. تخيل لو أنك وضعت كل أموالك في شركة واحدة، ثم واجهت هذه الشركة مشكلة مفاجئة، أو انخفض سهمها لأي سبب خارج عن إرادتك، ستفقد كل استثمارك في لحظة.

 

الأمر لا يقتصر على الشركات فقط، بل يمتد إلى القطاعات الاقتصادية. فالمستثمر الذكي لا يضع أمواله كلها في قطاع واحد أو في قطاعات مترابطة. فلو استثمرت مثلًا في قطاعي السياحة والطيران، فإن أي أزمة تؤثر على الأول ستضر حتمًا بالثاني. إن توزيع الاستثمارات بذكاء وبناء محفظة مالية متنوعة يعد علمًا بحد ذاته، يتطلب دراسة وخبرة ومبالغ مالية ضخمة تسمح للمستثمر بالدخول في أكثر من قطاع. من هنا، بدأت فكرة صناديق الاستثمار (Mutual Funds) بالظهور في عشرينيات القرن الماضي. تقوم فكرة الصندوق ببساطة على أن شركة متخصصة تجمع أموالًا من عدد كبير من المستثمرين، ثم تقوم بتعيين خبراء لإدارة هذه الأموال نيابة عنهم مقابل رسوم سنوية.

ما هي صناديق المؤشرات وكيف أصبحت بلاك روك وفانجارد عمالقة الاستثمار؟

جون بوجل

“جون بوجل” الفيلسوف الذي حارب “وول ستريت”

في عام 1974، اهتز عالم الاستثمار بمقال للباحث الاقتصادي الأمريكي بول سامويلسون، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد. أثبت سامويلسون بالأدلة الإحصائية أن أداء مديري الصناديق المحترفين، على المدى الطويل، ليس أفضل من أداء السوق ككل. أي أن الخبير الذي يتباهى بقدرته على تحقيق عوائد استثنائية، غالبًا ما يتفوق عليه مؤشر السوق العام بعد مرور فترة طويلة. هنا، برز جون بوجل، الطالب المتفوق والخبير المالي الذي كان يؤمن بهذه الفكرة منذ أن كتب أطروحة تخرجه في جامعة برينستون. بعد خلاف مع مجلس إدارة الشركة التي كان يعمل بها، قام بوجل بتأسيس شركته الخاصة “فانجارد”.

 

متأثرًا بفكرة سامويلسون، قرر بوجل إطلاق فكرة ثورية: صندوق استثمار لا يهدف إلى التفوق على مؤشر السوق، بل إلى محاكاته بدقة. وُلد صندوق المؤشر الخامل (Index Fund)، وهو صندوق يجمع أموال المستثمرين لشراء أسهم جميع الشركات المدرجة في مؤشر معين، مثل مؤشر S&P 500 الذي يقيس أداء أكبر 500 شركة أمريكية. بهذه الطريقة، يتم توزيع أموال الصندوق بنفس النسب التي يحددها المؤشر، دون الحاجة إلى مديرين يختارون الأسهم. هذا الصندوق لا يملك “شخصية” أو “ذكاء”؛ إنه ببساطة يتبع المؤشر. كانت هذه الفكرة إعلانًا للحرب على نماذج العمل التقليدية في “وول ستريت”.

 

الانطلاقة الصعبة والنجاح الهائل كيف انتصرت الفكرة؟

كانت هذه الفكرة إعلانًا للحرب على نماذج العمل التقليدية في “وول ستريت”. فقد اعتبرها مدراء الصناديق الآخرون تهريجًا وساذجة. سخروا من بوجل ومن فكرته، وأطلقوا على صندوقه الأول اسم “حماقة بوجل” (Bogle’s Folly). كيف يمكن لصندوق يَعِد بمتوسط السوق أن ينافس صناديق تدعي تحقيق أكبر الأرباح؟ الأهم من ذلك، كيف يمكنه أن ينافس في ظل وجود رسوم إدارة قليلة جدًا مقارنة بالصناديق النشطة؟ رغم أن بوجل كان يؤمن بفكرته إيمانًا لا يتزعزع، إلا أن الانطلاقة كانت صعبة. ففي عام 1975، وبعد ثمانية أشهر من محاولات إقناع المستثمرين، لم يستطع بوجل جمع سوى 12 مليون دولار فقط، وهو مبلغ أقل بكثير من المبلغ المستهدف لبدء الصندوق. كان السبب واضحًا: المستثمرون يريدون الثراء السريع، بينما تتطلب فكرة بوجل الصبر والنظر إلى الأجل الطويل.

ما هي صناديق المؤشرات وكيف أصبحت بلاك روك وفانجارد عمالقة الاستثمار؟

ملصقات تم توزيعها في وول ستريت لمنع المستثمرين من الإنخراط وراء بوجل بعد وصف فكرته بـ Bogle’s Folly

ولكن بعد سنوات من الكساد الاقتصادي في منتصف السبعينيات، بدأ الاقتصاد الأمريكي بالانتعاش بقوة. وفي العقد الذي تلا ذلك، حقق مؤشر S&P 500 مكاسب هائلة، تجاوزت 240% خلال عشر سنوات. وهنا، أثمرت استراتيجية بوجل. المستثمرون الذين وضعوا أموالهم في الصندوق الخامل جنوا أرباحًا لم يتوقعوها، وتفوقوا على العديد من الصناديق التي كان يديرها “خبراء”. هذا النجاح الساحق منح فانجارد مصداقية وثقة في السوق، وبدأت الشركة في إطلاق صناديق أخرى، لكنها جميعًا بقيت مبنية على المبادئ الأساسية التي وضعها بوجل: مخاطر قليلة ونظرة استثمارية طويلة الأجل. بدأت الأموال تتدفق بغزارة إلى صناديق فانجارد، ومن مليار ونصف دولار في البداية، قفزت الأصول المدارة إلى 77 مليار دولار بحلول عام 1991.

 

ثورة الصناديق المتداولة (ETFs)

عندما رأى المنافسون نجاح فانجارد، أدركوا أن بوجل كان على حق. بدأت الشركات المالية الكبرى في إطلاق صناديق مؤشرات خاصة بها لمنافسة فانجارد. وفي عام 1993، حدث تطور كبير عندما قرر أحد منافسي فانجارد، ستيت ستريت (State Street)، أن يبتكر طريقة جديدة لبيع صناديق المؤشرات. كان بوجل يعارض فكرة تداول الصناديق كغيرها من الأسهم، لأنه كان يؤمن بأن الاستثمار يجب أن يكون طويل الأجل. ولكن ستيت ستريت ابتكرت فكرة صناديق المؤشرات المتداولة (ETFs) التي تسمح للمستثمرين بشراء وبيع أسهم الصندوق بسهولة في أي وقت خلال اليوم، تمامًا مثل أي سهم عادي. هذا الابتكار أزال العقبات التي كانت تواجه المستثمرين مع صناديق فانجارد، وسهل عليهم الدخول والخروج من السوق.

 

منذ ذلك الحين، شهدت صناعة الصناديق المتداولة نموًا هائلًا، وتبعها لاعبون آخرون. هنا، يظهر اسم بلاك روك (BlackRock). فمن خلال استحواذها على شركة iShares، أصبحت بلاك روك واحدة من أكبر مديري صناديق المؤشرات المتداولة في العالم، لتكمل بذلك الثلاثي المهيمن على عالم الاستثمار.

ما هي صناديق المؤشرات وكيف أصبحت بلاك روك وفانجارد عمالقة الاستثمار؟

شركة بلاك روك لإدارة الأصول

“بلاك روك” الرهان الجريء على المستقبل

تأسست بلاك روك في عام 1988 على يد لاري فينك، وكانت في البداية تركز على إدارة المخاطر. لكن لاري فينك كان يراقب المشهد من بعيد، ويرى أن صناديق المؤشرات المتداولة هي المستقبل. في عام 2009، بعد الأزمة المالية العالمية، أدرك فينك أن هذه هي الفرصة التي كان ينتظرها. كانت الأسواق تنهار، والمستثمرون يبحثون عن الأمان والحلول لتقليل الخسائر. كان يرى فينك أن صناديق المؤشرات ستكون الحل الأمثل. في عام 2009، عرض فينك 13.5 مليار دولار لشراء علامة “آي شيرز” (iShares) من بنك باركليز، والتي كانت تضم 47 صندوقًا. رأى الكثيرون في ذلك الوقت أن المبلغ مبالغ فيه، لكن فينك كان يراهن على أن صناديق المؤشرات هي مستقبل الاستثمار. وقد كان رهانه صحيحًا.

 

اليوم، تصنف عملية استحواذ بلاك روك على “آي شيرز” كواحدة من أنجح الصفقات في التاريخ. نمت الأصول التي تديرها صناديق المؤشرات المتداولة في الولايات المتحدة من 700 مليار دولار في عام 2009 إلى أكثر من 10 تريليونات دولار حاليًا. وهذا النمو الهائل يعكس التحول الجذري في طريقة الاستثمار، حيث أصبح عدد ضخم من الأفراد والمؤسسات يستثمرون في صناديق المؤشرات بدلًا من الأسهم الفردية.

ما هي صناديق المؤشرات وكيف أصبحت بلاك روك وفانجارد عمالقة الاستثمار؟

الجدل حول الهيمنة حقيقة أم نظرية مؤامرة؟

نتيجة لهذا النمو، أصبح عمالقة الاستثمار الثلاثة فانجارد، بلاك روك، و ستيت ستريت يمتلكون نسبًا كبيرة في معظم الشركات الكبرى حول العالم. وتتركز هذه الملكية في صناديقهم التي تستثمر في المؤشرات، مما يمنحهم نفوذًا كبيرًا. وقد أثار هذا النفوذ جدلًا واسعًا وانتقادات متكررة. يتهمهم البعض بأنهم يشكلون احتكارًا خطيرًا قد يهدد الاقتصاد العالمي، بينما يتهمهم آخرون، من الجمهوريين والديمقراطيين على السواء، بممارسة ضغوط على الشركات لتبني أجندات سياسية معينة.

 

رداً على هذه الاتهامات، تقدم الشركات الثلاثة نفس الحجة: “هذه الأموال ليست ملكنا، إنها أموال المستثمرين”. فهم يؤكدون أنهم مجرد مديرين للأصول، وأن الأموال التي يديرونها تعود إلى ملايين المستثمرين من الأفراد العاديين، إلى الصناديق السيادية والدولية. ورغم حجمهم الهائل، فإنهم لا يمتلكون حصص أغلبية في أي شركة. على سبيل المثال، حصة فانجارد في شركة أبل لا تتجاوز 9%، مما يعني أن رئيس فانجارد لا يمكنه أن يفرض على أبل أي قرار لا ترغب فيه.

 

قصة التأثير والمسؤولية

كشف تقرير صدر في عام 2023 عن تصويت الشركات الثلاثة على 100 قرار يتعلق بالبيئة والحوكمة، وأظهرت النتائج أن قراراتهم كانت متباينة، مما يدحض نظرية المؤامرة التي تزعم أنهم يعملون ككيان واحد. فبلاك روك وافقت على 55 قرارًا، وستيت ستريت على 60، بينما وافقت فانجارد على 28 فقط. وهذا يؤكد أن كل شركة لها استراتيجيتها المستقلة، وأنها تسعى في المقام الأول إلى تحقيق أهداف المستثمرين. يقول الخبراء إن المؤامرة الحقيقية هي في الطبيعة البشرية نفسها. فالمستثمرون يختارون بأموالهم ما يخدم مصلحتهم الشخصية أولًا وأخيرًا، ويهتمون بالعائد المادي أكثر من أي شيء آخر. والشركات التي تدير الأصول، بدورها، تستجيب لهذه الرغبة، لأن هدفها الأساسي هو إرضاء العميل وتحقيق أعلى الأرباح.

 

إن حكاية هذه الشركات الثلاث ليست قصة مؤامرة سرية، بل هي نتاج منطقي لتطور فكرة اقتصادية بدأت بملاحظة بسيطة. أن متوسط السوق أفضل على المدى الطويل من معظم خبراء الاستثمار. ومن خلال جمع أموال الملايين من المستثمرين الصغار وإعادة استثمارها في جميع شركات السوق. أصبحت هذه الشركات تمتلك حصصًا هائلة في غالبية الشركات الكبرى حول العالم. مما يمنحها تأثيرًا ونفوذًا لا يمكن إنكاره، لكنه نفوذ مبني على مبدأ التنوع والشفافية، وليس على الخفاء والسرية. في نهاية المطاف، تبقى نصيحة جون بوجل الخالدة هي الأكثر تأثيرًا. فعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية لم تجعل أحدًا ثريًا ثراءً فاحشًا بين ليلة وضحاها. إلا أنها وفرت لملايين البشر حول العالم فرصة لجمع ثروات كبيرة على المدى الطويل. وتحقيق حياة كريمة من خلال الاستثمار في مستقبل الاقتصاد.

NightlyNews24 موقع إخباري عربي يقدم أخبار السياسة، الاقتصاد، والرياضة بتغطية يومية دقيقة وتحليلات موجزة لمتابعة الأحداث الراهنة بأسلوب مهني وموضوعي.

النشرة البريدية

اشترك الآن في نشرتنا البريدية وكن أول من يتابع آخر الأخبار والتحديثات الحصرية مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

آخر الأخبار

@2021 – جميع الحقوق محفوظة NightlyNews24