شهدت أسواق المعادن اليوم رقمًا تاريخيًا غير مسبوق، حيث لامس سعر أونصة الذهب مستوى 3334.20 دولارًا. لم يكن هذا الارتفاع مجرد تصحيح فني عابر، بل لحظة محورية تعيد تشكيل ملامح المشهد المالي العالمي.
أسعار الذهب تسجل قمة تاريخية عند 3334 دولارًا وشركات تعدين الذهب تتفوق
يعكس الارتفاع اللافت في سعر الذهب بنسبة 26% منذ بداية العام تحولًا عميقًا في توجهات المستثمرين. ففي ظل حالة عدم اليقين السياسي والاقتصادي المتزايدة، يبحث المستثمرون عن ملاذ آمن لأصولهم، ويأتي الذهب في مقدمة هذه الملاذات. وقد ساهم في هذا الارتفاع القياسي زيادة مشتريات البنوك المركزية من الذهب وصناديق الاستثمار المتداولة التي تشهد تدفقات نقدية متزايدة.
وتشير توقعات “غولدمان ساكس” إلى أن سعر أونصة الذهب سيواصل ارتفاعه ليصل إلى 4000 دولار بحلول منتصف عام 2026. ويستند هذا التوقع إلى استمرار شهية البنوك المركزية، التي من المتوقع أن تزيد مشترياتها من الذهب إلى 80 طنًا شهريًا، مقارنة بـ 70 طنًا كانت متوقعة سابقًا.
شركات تعدين الذهب تحقق أداءً استثنائيًا
المفاجأة الحقيقية في المشهد المالي لم تأتِ من الذهب نفسه، بل من شركات تعدينه. فلأول مرة منذ عقدين، سجلت أسهم شركات التعدين أداءً يفوق أداء المعدن الأصفر ذاته، وذلك وفقًا لتقرير صادر عن “بلومبرغ إنتلجنس”. وقد حقق مؤشر “بلومبرغ إنتلجينس لأسهم شركات الذهب الكبرى” ارتفاعًا بنسبة 38%، متفوقًا بذلك على أداء الذهب الذي بلغ 20%، بل وتجاوز أيضًا جميع مؤشرات الأسهم العالمية الأخرى.
يعزو التقرير هذا الأداء القوي لشركات التعدين إلى تحسن الانضباط المالي، وتقليص التكاليف، والاستفادة من عمليات الاندماج والاستحواذ الاستراتيجية التي قامت بها هذه الشركات خلال الفترة الأخيرة.
أسعار الذهب تسجل قمة تاريخية عند 3334 دولارًا وشركات تعدين الذهب تتفوق
تفوق غير متوقع للشركات ذات التكلفة الأعلى
المفارقة اللافتة، بحسب التقرير، هي أن شركات التعدين الأعلى تكلفة، والتي كانت تعتبر سابقًا الأكثر عرضة للخطر، أصبحت الآن أكثر جاذبية للمستثمرين بفضل الارتفاع الكبير في سعر الذهب. وقد تفوقت أسهم شركات مثل “أنغلو غولد” و”غولد فيلدز” على منافسيها الكبار “نيوماونت” و”باريك” بنسب تراوحت بين 34% و60% خلال العام الجاري. ومع ذلك، يحذر التقرير من أن هذا التفوق يعتمد بشكل كبير على استمرار الزخم الصعودي لأسعار الذهب، حيث قد تتعرض هذه الأسهم الأعلى مخاطرة إلى هبوط حاد في حال تراجعت الأسعار.
على الرغم من الأداء القوي للقطاع بشكل عام، تواجه بعض شركات التعدين تحديات خاصة. فقد تلقت شركة “غولد فيلدز” ضربة قوية بعد أن أمرتها السلطات الغانية بإخلاء منجم “دامانغ” بعد رفض تمديد عقد الإيجار، على الرغم من أن هذا المنجم يمثل نسبة صغيرة من إنتاج الشركة. وفي مالي، واجهت “باريك غولد” انتكاسة أخرى بإغلاق السلطات مكتبها الرئيسي في العاصمة باماكو بسبب نزاع ضريبي.
بينما تسعى “باريك غولد” لتحسين أداء منجمها في “نيفادا” وإعادة تشغيل منجم “لوولو-غونكوتو”، تظل الشركة تحت ضغط تنافسي من شركات أخرى مثل “أغينكو إيغل” و”كينروس” التي عززت مواقعها السوقية في الفترة الأخيرة. وفي إندونيسيا، تعتزم الحكومة تطبيق نظام جديد لرفع رسوم التعدين بدءًا من 26 أبريل، مما قد يؤثر على التكاليف التشغيلية لشركات تعدين الذهب وغيرها من المعادن.
تقييم جذاب لشركات الذهب رغم الارتفاع
من الناحية التقييمية، لا تزال شركات الذهب تتداول بمضاعفات منخفضة مقارنة بمتوسطاتها التاريخية، مما يوفر هامش أمان في حال حدوث تراجع في أسعار الذهب. وتبدو شركات مثل “كينروس” و”غولد فيلدز” و”أنغلوغولد” في وضع جيد بعد إعادة تقييم إيجابية نتيجة أدائها التشغيلي القوي. في المقابل، لا تزال “نيوماونت” و”باريك” تُتداول بأسعار أقل من متوسط القطاع، مما يمنحهما فرصة محتملة لإعادة التقييم إذا تحسن أداؤهما.
تتضافر عدة عوامل لدفع أسعار الذهب إلى مستويات أعلى، بما في ذلك تزايد المخاوف من الركود الاقتصادي العالمي، واستمرار ضعف الدولار الأميركي، وتصاعد التوترات الجيوسياسية في مناطق مختلفة من العالم، بالإضافة إلى مشتريات غير مسبوقة من البنوك المركزية. وفي هذا السياق، لم يعد الذهب يُنظر إليه كمجرد ملاذ آمن، بل كأداة تحوط استراتيجية مهمة.
في ظل هذا الزخم القوي لأسعار الذهب، تبرز شركات التعدين كلاعب جديد يستحق المتابعة. فإذا استمر الذهب في مساره التصاعدي، فقد نشهد أخيرًا تحول قطاع طالما خيب آمال المستثمرين إلى نجم المرحلة المقبلة في الأسواق المالية.