تتحول المملكة العربية السعودية سنويًا إلى قبلة لملايين المسلمين من شتى بقاع الأرض، يتوافدون لأداء فريضة الحج. هذه الرحلة الإيمانية العظيمة لا تقتصر آثارها على الجانب الروحاني فحسب، بل تتجلى في عائدات اقتصادية ضخمة ومؤثرة. ومع تزايد أعداد الحجاج والمعتمرين عامًا بعد عام، وتزامنًا مع الطموحات الكبيرة التي تحملها رؤية المملكة 2030 لتنمية السياحة الدينية، بات الحج رافدًا استراتيجيًا لا غنى عنه في تنويع الاقتصاد السعودي وتحقيق أهدافه التنموية بعيدًا عن الاعتماد على النفط.
اقتصاد الحج: أرقام قياسية وتوقعات مستقبلية لضيوف الرحمن
كشفت الهيئة العامة للإحصاء عن الأرقام الرسمية لموسم الحج لعام 1445هـ (2024م)، حيث بلغ إجمالي أعداد الحجاج نحو 1.833 مليون حاج وحاجة. قدم 1.611 مليون حاج من خارج المملكة، بينما بلغ عدد حجاج الداخل 222 ألفًا. هذه الأرقام تعكس حجمًا ضخمًا من حركة الأشخاص. وهي تقترب من ذروتها التي سجلها الحج قبل جائحة كوفيد-19، بينما وصل العدد إلى أكثر من 3 ملايين حاج في عام 2012.
الأهم من ذلك، أن الطموح السعودي لا يتوقف عند أرقام الحج السنوية، بل يمتد ليشمل إجمالي ضيوف الرحمن الذين يفدون إلى المملكة على مدار العام لأداء مناسك العمرة. فقد صرح معالي وزير الحج والعمرة، الدكتور توفيق الربيعة. بأن أعداد الحجاج والمعتمرين اقتربت من 18.5 مليون في عام 2024. هذا التصريح جاء خلال إطلاق النسخة المحدثة لتطبيق “نسك”، التي أضيفت إليها 100 خدمة إضافية لتسهيل رحلة ضيوف الرحمن. وأضاف الربيعة أن عدد زوار الروضة الشريفة في المدينة المنورة ارتفع إلى أكثر من 13 مليون زائر في عام 2024، مما يؤكد تزايد جاذبية المملكة كوجهة دينية على مدار العام.
اقتصاد الحج: هيمنة جوية وآسيوية
تحلل الأرقام الرسمية الصادرة عن الهيئة العامة للإحصاء التركيبة الديموغرافية والجغرافية للحجاج القادمين من خارج المملكة. كما تظهر البيانات أن غالبية هؤلاء الحجاج ينتمون إلى الدول الآسيوية غير العربية، مشكلين 63.3% من إجمالي حجاج الخارج. هذا التوزع الجغرافي يعكس العلاقات التاريخية والدينية العميقة التي تربط المملكة بالعديد من الدول في القارة الآسيوية.
أما فيما يتعلق بوسائل النقل، فإن الغالبية العظمى من الحجاج القادمين من خارج المملكة وصلوا عبر المنافذ الجوية. بينما بلغ عددهم أكثر من 1.54 مليون حاج، أي ما يقارب 96% من إجمالي حجاج الخارج. هذا يؤكد على الدور المحوري للمطارات السعودية في استيعاب هذه الأعداد الهائلة. في المقابل، وصل نحو 60 ألف حاج عبر المنافذ البرية. بنسبة تقارب 3.7%، وهؤلاء يمثلون بشكل رئيسي الحجاج من دول الخليج والدول القريبة مثل الأردن. أما المنافذ البحرية، فقد شهدت قدوم أقل عدد من الحجاج، إذ لم يتجاوزوا 4,700 حاج، بنسبة أقل من 0.3% فقط، مما يشير إلى محدودية استخدام هذا المسار مقارنة بالجو والبر.
الحج: محرك اقتصادي شامل بعيدًا عن النفط
كما يعد الحج عاملًا اقتصاديًا بالغ الأهمية في مسار تنويع الاقتصاد السعودي بعيدًا عن النفط، وهو ما تسعى إليه رؤية 2030. يقدر بعض الاقتصاديين أن تتجاوز إيرادات الحج والعمرة 40 مليار ريال سعودي سنويًا، أي ما يعادل 10.7 مليار دولار تقريبًا. هذه الإيرادات، بحسب المختصين، تصب في صالح القطاع الخاص بشكل رئيسي وليس في خزينة الدولة مباشرة، ولا تمثل من الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 4%.
ومع ذلك، فإن التوقعات تشير إلى أن هذه الإيرادات ستتجاوز 50 مليار ريال سعودي سنويًا. (حوالي 13.3 مليار دولار) بعد تحقيق أهداف رؤية 2030 الطموحة. ومن منظور آخر، أشار تقرير صحفي إخباري إلى أن الحج والعمرة يضيفان نحو 12 مليار دولار سنويًا لاقتصاد السعودية. بما نسبته نحو 7% من إجمالي الناتج المحلي، و20% من الناتج غير النفطي. هذا الفارق بين التقديرات يعود لاختلاف الأسس المحاسبية، لكنه يؤكد في النهاية الدور الاقتصادي المعتبر للحج ضمن منظومة السياحة الدينية.
لقد حقق قطاع السياحة الدينية ككل قفزات ملحوظة بفضل الحوافز الحكومية والدعم الكبير من رؤية 2030. ففي عام 2024. أصبحت مساهمة السياحة في الاقتصاد السعودي نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي. مقارنة بـ 3% في عام 2019، مع استراتيجية واضحة لزيادة هذه الحصة إلى 10% بحلول عام 2030. كما يُتوقع أن يلعب الحج والعمرة دورًا رئيسيًا في هذا النمو، مدفوعًا بتسهيل إجراءات التأشيرات وتطوير البنية التحتية الشاملة التي تشمل المطارات والفنادق والنقل والمرافق الخدمية.
اقتصاد الحج وصناعة فرص العمل
على صعيد العمالة، تستقطب صناعة الحج والعمرة آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة. ورغم غياب رقم رسمي موحد، أشارت دراسات إلى أن أكثر من نصف مليون شخص يعملون مباشرة في قطاع السياحة في السعودية، ومعظمهم في السياحة الدينية. بينما يؤكد مراقبون أن كل مئات الآلاف من الحجاج يحتاجون إلى آلاف العاملين في الفنادق، وشركات النقل، وخدمات الإعاشة، والاستقبال، والرعاية الصحية، ناهيك عن آلاف الإضافيين في الإشراف والخدمات الحكومية.
كما وظفت الاستثمارات الضخمة في مشاريع الحج آلاف العمال الأجانب والمحليين في أبراج الفنادق. والمشاريع الإنشائية الخاصة بالأماكن المقدسة، مما يسهم في تنشيط قطاع البناء والتشييد وتوفير فرص عمل واسعة.
حج المستقبل: بنية تحتية عملاقة وخدمات متطورة
لم تدخر المملكة جهدًا في تطوير البنية التحتية والخدمات اللوجستية لضيوف الرحمن. فخلال الأعوام الأخيرة. دشّنت المملكة أكبر محطة تبريد في العالم داخل الحرم المكي لترطيب الهواء وتلطيفه للحجاج، مما يوفر بيئة أكثر راحة لهم.
كما افتتحت المملكة قطار المشاعر المقدسة بطاقة استيعابية تبلغ 72 ألف حاج في الساعة، لنقل أكثر من 350 ألف حاج بين منى وعرفات. ويعمل القطار بالطاقة الكهربائية الصديقة للبيئة، مما يعكس التزام المملكة بالحلول المستدامة.
وعلى مدار عام 2024، جهزت البلاد ستة مطارات لاستقبال رحلات الحج، بتسيير نحو 7,700 رحلة جوية تحمل 3.4 مليون مقعد سفر. بينما يتكامل ذلك مع شبكة النقل الأخرى. مثل قطار الحرمين السريع (المتجه بين مكة والمدينة) بسعة 1.6 مليون مقعد. وحافلات نقل ضيوف الرحمن البالغ عددها 27 ألف حافلة للنقل الداخلي.
وشهد القطاع الفندقي توسعًا غير مسبوق. فوفق إحصائيات وزارة السياحة السعودية، وصل عدد مرافق الضيافة المرخصة في مكة المكرمة إلى 816 منشأة بأكثر من 227 ألف غرفة. بارتفاع ملحوظ بنسبة 38% في عدد الغرف خلال الربع الأول من عام 2024 مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. وتعمل فنادق خمس نجوم جديدة وضخمة أمام الحرم لاستقبال حجاج العالم، بما في ذلك مشروع «أبراج البيت» الشهير. يؤكد المسؤولون الفندقيون ازدحام الغرف الفندقية، بينما تصل نسبة الإشغال إلى 100% في موسم الحج، رغم الأسعار. إذ تستقبل أجنحة الفنادق الفاخرة آلاف الحجاج من أوروبا وآسيا الباحثين عن الراحة والخدمات المتميزة.
هذه البنية التحتية المتطورة لا تقتصر على الحج والعمرة فحسب، بل تدعم أيضًا المطارات والسكك الحديدية والطرقات بشكل عام. فقد وضعت الحكومة خطة شاملة. لتطوير مطار الملك عبد العزيز الدولي في جدة وتوسعة مطار الأمير محمد بن عبد العزيز الدولي بالمدينة المنورة. وعلى سبيل المثال، خصصت السعودية كوادر بشرية تزيد على 21 ألف موظف. لدعم ضيوف الرحمن في المطارات بجدة وينبع ومدينة الملك عبد العزيز، ووفرت مليونين ونصف المليون مقعد إضافي على رحلات الحج الدولية. يسهم كل هذا الإنفاق على البنى التحتية والفندقية وخدمات النقل والمطارات. في تنشيط قطاعات البناء والتشييد واللوجستيات، مما يزيد الأثر الاقتصادي للحج لما بعد انتهاء المناسك.
اقتصاد الحج.. صناعة متكاملة
من زاوية الفرد والشركات، تحولت رحلة الحج إلى صناعة متكاملة يقدمها القطاع الخاص. ففي السعودية، يوجد أكثر من 45 شركة مرخصة لتنظيم حملات الحج والعمرة. تقدم هذه الشركات باقات متنوعة تناسب مختلف القدرات المادية، فالباقة الأساسية للحاج السعودي تبدأ عادة من 10,000–15,000 ريال. سعودي للشخص (نحو 2,700–4,000 دولار)، وتشمل الإقامة المتوسطة والتنقل بالحافلات والإعاشة البسيطة. أما الباقات الفاخرة فتتراوح تكلفتها بين 20,000 و40,000 ريال سعودي للفرد (حوالي 5,300–10,700 دولار). وتتضمن الإقامة في فنادق خمس نجوم، ورحلات نقل خاصة جوية أو برية، ووجبات فندقية.
إضافة إلى ذلك، تفرض الحكومة رسوم تأشيرة حج تختلف بحسب جنسية الحاج، وتتراوح حاليًا بين 300 إلى 500 ريال سعودي (حوالي 80–130 دولارًا).
كما يظهر سلوك الحجاج الشرائي آثارًا واضحة على الأسواق المحلية. فقد كشفت دراسة أن غالبية إنفاق الحجاج تذهب إلى «السكن والنقل»، بنحو 40%. و31% من إجمالي النفقات على التوالي، يليهما شراء الهدايا والسلع التذكارية بنسبة 14%، ثم الإنفاق على الغذاء بنحو 10%. وبذلك، تعمق زيارة الحاج الأسواق المحلية، إذ يزور ضيوف الرحمن المحلات لشراء الذهب والمصوغات والملابس والأدوات الدينية والهدايا، مما يعزز إيرادات تجارة التجزئة والخدمات. ويضيف ذلك فروعًا مثل قطاع المأكولات (مطاعم ومطابخ) وشركات النقل الخاصة ورجال الأعمال الذين يقدمون خدمات إضافية للحجاج.
على الجانب الآخر، لا تمثل إيرادات الحج دخلًا مباشرًا للدولة بقدر ما يستفيد منها القطاع الخاص. فالرسوم الحكومية من تأشيرات وما إلى ذلك، تمثل فقط جزءًا صغيرًا. فيما تذهب الغالبية الساحقة من العوائد المباشرة إلى الشركات السياحية والفندقية والنقل والخدمات. لذلك، تركز رؤية المسؤولين على جعل الحج «موردًا اقتصاديًا حيويًا» يدعم تنويع الاقتصاد. وقد تناول بيان رسمي كيف ساهم الحج في توجيه الاستثمارات المحلية والأجنبية. إذ تخلق مشاريع الحج فرص عمل عديدة وتزيد نسب إشغال الفنادق ومبيعات التجارة، وتدفع نمو قطاعات مصاحبة. كالمأكولات والمشروبات والتجزئة، خاصة خلال موسم الحج وبعده في زيارة المدينة المنورة والقصيم على سبيل المثال.
التحديات والفرص المستقبلية: نحو فائض اقتصادي مستدام
تتضمن التحديات المستقبلية إعادة شريحة أكبر من فوائض هذه العائدات إلى خزينة الدولة وتوجيهها في مشروعات أكبر؛ فحتى الآن، ثلثا هذه الإيرادات يستفيد منه القطاع الخاص بالأساس. ولهذا، تعمل الحكومة على ابتكار أدوات تمويل جديدة لتهيئة مناطق التطوير حول المشاعر المقدسة، وتشجيع الاستثمارات في الإعلام والترفيه والخدمات الذكية خلال الحج لضمان تحقيق فائض اقتصادي مستدام.
في حين تشير التطلعات والرؤية لعام 2030 فيما يخص الحج إلى أهداف طموحة وواضحة. فمن المتوقع أن يصل عدد المعتمرين إلى 30 مليون معتمر، وهو رقم يتماشى مع أهداف رؤية 2030 العامة. كما تهدف المملكة إلى رفع مساهمة السياحة في الناتج المحلي الإجمالي من 5% حاليًا. إلى ما بين 5% و10% بحلول عام 2030، مع الأخذ في الاعتبار أنها كانت 3% فقط في عام 2019. ومن المتوقع أن تتجاوز عوائد الحج والعمرة 50 مليار ريال سعودي بحلول عام 2030، أي ما يزيد عن 13.3 مليار دولار.
على صعيد التحديات، تبرز قضايا مثل البنية التحتية، والحرارة، وإدارة الزحام. والتي يجري العمل على معالجتها من خلال تطوير مناطق المشاعر المقدسة والبنية التحتية الذكية. أما الفرص، فتتمثل في النمو السنوي المستمر للسياحة الدينية، وإمكانية ربط الحج بالابتكار والنمو الاقتصادي الأوسع.
بينما يتضح أن موسم الحج يعد من أهم المناسبات الاقتصادية في السعودية، فهو يجمع بين هدفين استراتيجيين: تعزيز الاقتصاد الوطني وتنويعه من جهة، والارتقاء بتجربة الحج الدينية من جهة أخرى. تزامناً مع مبادرات رؤية 2030، يبرز أثر الحج في دعم الاقتصاد السعودي بصورة مستدامة. من توسع ريع السياحة الدينية، وإيرادات تقاس بالمليارات سنويًا، إلى خلق فرص عمل لآلاف المواطنين والمقيمين. ومع سعي المملكة لاستيعاب أعداد أكبر، بهدف معلن بـ 30 مليون معتمر بحلول 2030. فإن الأرقام المتوقعة تتحرك نحو مزيد من التنويع والاستثمارات، مما يرسخ مكانة الحج كقاطرة حقيقية للتنمية المستدامة في المملكة.