في قلب الريف المصري، بقرية نكلا العنب مركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة، وُلدت فنانة استثنائية في تاريخ الدراما والسينما المصرية. إنها النجمة عبلة كامل، التي طالما ارتبط اسمها بالصدق والجاذبية التلقائية، لتتحول من مجرد ممثلة تقدم أدوارًا إلى أيقونة شعبية تتمتع بقاعدة جماهيرية واسعة، بفضل موهبتها الفذة وأدائها المؤثر الذي يلامس القلوب.
عبلة كامل، خريجة كلية الآداب قسم مكتبات عام 1984، لم تبدأ رحلتها الفنية في الأضواء الساطعة للنجومية التلفزيونية والسينمائية مباشرة. بل كانت بدايتها الحقيقية على خشبة المسرح. حيث شهد مسرح الطليعة أولى خطواتها الفنية الجادة بمشاركتها في مونودراما “نوبة صحيان”. سرعان ما برهنت على موهبة فطرية وقدرة تمثيلية لافتة، لتلفت أنظار كبار المخرجين والفنانين.
انضمت بعد ذلك للعمل مع قامة فنية بحجم الفنان الكبير محمد صبحي في مسرحية “وجهة نظر”، وهي المسرحية التي رسخت مكانتها كممثلة كوميدية ودرامية بامتياز. وتوالت أعمالها المسرحية المميزة مع الكاتب القدير لينين الرملي، حيث شاركت في مسرحيات مثل “عفريت لكل مواطن” عام 1988. و”مقالب حيران” عام 1989، و”الحادثة المجنونة” عام 1993، و”اعقل يا دكتور” عام 2000. هذه الأعمال المسرحية المتنوعة أسست لقاعدة قوية لمسيرتها، مكنتها من التعبير عن قدراتها الفنية في أدوار مختلفة.
عيلة كامل ورحلة النجومية التلفزيونية والسينمائية
بدأ الجمهور الأوسع يتعرف على عبلة كامل بشكل أكبر من خلال الشاشة الفضية، بينما كانت مشاركتها في فيلم “وداعا بونابارت” للمخرج العالمي يوسف شاهين عام 1985 بمثابة نقطة انطلاق هامة نحو السينما. إلا أن النجومية المطلقة والشعبية الجارفة جاءت بفضل دورها الأيقوني “فاطمة” في مسلسل “لن أعيش في جلباب أبي” عام 1996. هذا الدور، الذي جسدته ببراعة منقطعة النظير، جعلها نجمة لا تنافس. ولا يزال المسلسل وشخصية “فاطمة” محفورين في ذاكرة الأجيال كعمل فني خالد.
لم تتوقف مسيرة عبلة كامل عند هذا النجاح الباهر، بل استمرت في تقديم أدوار لا تُنسى في عشرات الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي أثرت المكتبة الفنية المصرية والعربية. في السينما، تنوعت اختياراتها بشكل لافت، فمن الأفلام ذات الطابع الفني مثل “اليوم السادس” و”للحب قصة أخيرة” (1986)، مرورًا بـ “يوم مر ويوم حلو” (1988)، و”سيداتي آنساتي” (1989)، إلى الأفلام التي حققت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا مثل “سواق الهانم” (1994)، و”قشر البندق” و”سارق الفرح” (1995)، “هيستيريا” (1998)، و”عرق البلح” و”المدينة” (1999). وفي الألفية الجديدة، لمعت في أدوار كوميدية ودرامية محبوبة للغاية، منها دور “فرنسا” الذي ارتبط بها بقوة في فيلمي “اللمبي” و”خالتي فرنسا” (2003 و 2004)، بالإضافة إلى أفلام “كلم ماما” (2003)، “سيد العاطفي” (2005)، “عودة الندلة” (2006)، وصولًا إلى “الكبار” (2010)، والتي أظهرت قدرتها على التنوع بين الكوميديا والتراجيديا ببراعة.
عبلة كامل وشاشة التليفزيون
أما في التلفزيون، فقد كانت عبلة كامل نجمة لا تغيب عن الشاشة، مقدمة أدوارًا محورية في أهم المسلسلات المصرية. من دورها كسكرتيرة في الجزء الثاني من “الشهد والدموع” (1985)، ودور “رقية” الذي لازمها في أجزاء متعددة من ملحمة “ليالي الحلمية” (من 1987 حتى 1995). إلى أدوارها المميزة في “ضمير أبلة حكمت” (1991)، و”المال والبنون” بجزأيه (1992 و1995)، و”ريا وسكينة” (2005) بينما جسدت شخصية “ريا” ببراعة مذهلة، و”العندليب” (2006)، و”هيمة أيام الضحك والدموع” (2008).
كما تعد مشاركتها في مسلسل “سلسال الدم” على مدار خمسة أجزاء (2013-2018)، حيث أدت شخصية “نُصرة”، أحد أبرز إنجازاتها التلفزيونية الحديثة التي حظيت بمتابعة جماهيرية غير مسبوقة في العالم العربي.

مسلسل “لن أعيش في جلباب أبي”
ولم تقتصر موهبة عبلة كامل على التمثيل الحي أمام الكاميرا، بل امتدت لتشمل فن الدبلجة. بينما أدت بصوتها المميز شخصية “دوري” المحبوبة في النسخة العربية من الفيلم الكارتوني الشهير “البحث عن نيمو”. كما شاركت صوتيًا في فيلم “الفارس والأميرة” الذي صدر عام 2020. مؤدية صوت شخصية “آيات”، لتثبت أن موهبتها الصوتية لا تقل عن قدراتها التمثيلية.
لمحات من حياتها الشخصية
على الصعيد الشخصي، مرت حياة عبلة كامل بعدة محطات مهمة. كان زواجها الأول من المخرج والممثل أحمد كمال، وأثمر هذا الزواج عن ابنتين توأم هما زينب وفاطمة. ولدتا عام 1986، قبل أن ينفصلا لاحقًا. وفي عام 2003، تزوجت للمرة الثانية من الفنان الراحل محمود الجندي. هذا الزواج، ورغم عمق المشاعر التي كانت تحيط به والتقدير المتبادل بين الطرفين لم يستمر سوى عامين، بينما أعلن انفصالهما في عام 2005.
في العام ذاته (2005)، اتخذت عبلة كامل قرارًا شخصيًا بارتداء الحجاب. وعلى الرغم من أن هذا القرار يراه البعض نقطة تحول قد تؤثر على مسيرة الفنانة. ألا أن عبلة كامل لم تتوقف عن التمثيل بشكل كامل، وإن كان نشاطها الفني قد قل بشكل ملحوظ بعد ذلك. وأصبحت إطلالاتها الفنية تتركز غالبًا في المسلسلات التلفزيونية، حيث حافظت على حضورها القوي وتأثيرها على الجمهور.
شهادات صادقة من عمالقة الفن
لطالما حظي أداء عبلة كامل بإشادات بالغة وشهادات تقدير صادقة من زملائها في الوسط الفني. الذين وصفوها بالصدق المتناهي، الموهبة الجبارة، والاحترافية الفريدة التي تجعلها أيقونة في الأداء.
الفنان فتحي عبد الوهاب، في أحد لقاءاته التلفزيونية، روى موقفًا لا يُنسى من مسلسل “ريا وسكينة” يجسد قوة أداء عبلة كامل. قال عبد الوهاب إنه كانت المرة الأولى التي يعمل فيها معها بالصدفة بعد اعتذار الفنان خالد صالح، ووصف تجربته قائلاً: “الأستاذة عبلة كامل بتتحول في الشوت، ودي كانت أول مرة في حياتي أخاف فعلًا خوف حقيقي وأنا قدام الكاميرا، لأن أنا مبقتش فاهم هو ده تمثيل ولا هي دخلت في نوبة ولا إيه النظام”. وأضاف، متحدثًا عن مشهد التحقيق الذي تنهار فيه “ريا” بعد اعتراف ابنتها: “في مشهد التحقيق بعد ما بنتها اعترفتلي، فيه حاجة حصلت كده مرعبة… هي موهبتها جبارة بجد، واليوم ده فعلًا لولا أن أنا ثباتي الانفعالي لا بأس به، كان الشوت هيبوظ، لأن أنا شوفت أداء ما كنتش متخيل إنه يحصل”.
كما تحدث الفنان الراحل محمود الجندي، بكلمات مؤثرة وصادقة، عن زواجه وانفصاله من عبلة كامل. قال إنه أحبها كـ”إنسانة محترمة جدًا وودودة”، وشعر بأنها “شبهنا من الفلاحين”. وبعد وفاة زوجته الأولى، وجد نفسه “محتاج حد يشوف حياتي، فتفكيري ذهب لعبلة كامل… عرضت عليها الجواز ومرفضتش ومطلبتش أي شروط غير مراعاة ربنا”.
وفي لحظة تأثر عميق، قال: “كانت نعم الزوجة وأيامنا سوى كانت حلوة أوي مع بعض. لكن ظروف شغلنا في مهنة واحدة كانت أقوى مننا، خصوصًا كان نجمها بيعلى أكتر مني. وبتطلب أكتر مني وده كان بيأثر فيّ ومكنتش بحب أبقى عبء عليها”. وتابع الجندي أن الأدوار التي كانت تأتيه مجاملة لها. لكونه زوجها أثرت على نفسيته، فصار عصبيًا حتى طلبت منه الطلاق.
ولم تكن هذه الإشادات مقتصرة على الرجال فقط، فقد عبرت الفنانة الراحلة دلال عبد العزيز. في أحد اللقاءات التلفزيونية عن تأثير أداء عبلة كامل عليها شخصيًا. فقد قالت دلال عن مشاهد عبلة كامل في مسلسل “حديث الصباح والمساء”، وخاصة مشهد تحضير العفاريت: “كنت مرعوبة… كنت خايفة بجد لأن عبلة كامل ممثلة صادقة أوي وجامدة… كنت بترعش بجد وكان مطلوب مني أزق الترابيزة وأقلب الزيت قبل ما يظهر أبو الحسن، وأنا خايفة أعمل كده لأني أنا جبانة وده كان أصعب مشهد بالنسبة لي”.
محبة الجماهير عبلة كامل “أمّ كل المصريين”
لم تقتصر شهادات الإعجاب على زملائها النجوم فحسب، بل امتدت لتشمل القاعدة الجماهيرية العريضة التي تحظى بها الفنانة عبلة كامل. فمحبتها راسخة في قلوب الجماهير، بينما يرتبط اسمها دائمًا بصورة الأم الحنونة. فكلما ذكر اسمها، يتذكر المشاهدون أمهاتهم لما تحمله ملامحها البسيطة من دفء ومحبة وحنان وطيبة، لتجسد بذلك صورة الأم المصرية الأصيلة.
تظل عبلة كامل، بموهبتها الفطرية، وحضورها الطاغي، وصدقها الفني والشخصي الذي لا يتكلف. قامة فنية راسخة ونموذجًا للفنانة الأصيلة التي استطاعت بمسيرتها الممتدة أن تخترق قلوب ملايين الجماهير في مصر والعالم العربي. إنها فنانة لا تتكرر كثيرًا، وقد تركت إرثًا فنيًا غنيًا ومتنوعًا سيظل يخلد اسمها في ذاكرة الفن المصري والعربي لأجيال قادمة.