شهد الاقتصاد الياباني في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي قمةً اقتصادية غير مسبوقة، حيث تجاوز نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي نظيره في الولايات المتحدة، وكانت ثماني من أكبر عشر شركات في العالم يابانية. بلغت قيمة العقارات في العاصمة طوكيو وحدها مستويات تفوق إجمالي قيمة عقارات ولاية كاليفورنيا. أما اليوم، وبعد عقود من الأزمات، تواجه اليابان تحديات اقتصادية كبيرة تتمثل في ركود النمو، ركود الأجور، وتراجع عدد السكان.
فكيف تحولت هذه القوة الاقتصادية الجبارة إلى ما يُعرف بـ”العقود الضائعة”؟
النهضة الاقتصادية من الركام إلى “مصنع العالم”
بعد الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، دفعت الولايات المتحدة بمساعدات ضخمة لليابان في إطار استراتيجيتها لاحتواء الشيوعية في آسيا. ساهم هذا الدعم في إعادة بناء اليابان لتصبح آلة تصدير عملاقة. بين عامي 1953 و1970، نمت الصادرات اليابانية بنسبة 380%، وهو ما يصفه المؤرخون بأنه أعظم “عودة اقتصادية” في التاريخ الحديث. أصبحت المنتجات اليابانية – من السيارات والإلكترونيات إلى أشباه الموصلات – مرادفًا للجودة، مما جعل اليابان “مصنع العالم” بلا منازع.
نقطة التحول: اتفاقية “بلازا” وفقاعة المال الرخيص
جاءت نقطة التحول الحاسمة في عام 1985 مع توقيع اتفاقية “بلازا”، وهي اتفاقية بين الدول الخمس الصناعية الكبرى (مجموعة G5) لخفض قيمة الدولار الأمريكي مقابل الين الياباني والمارك الألماني بهدف تقليص العجز التجاري الأمريكي. ونتيجة لهذه الاتفاقية، تضاعفت قيمة الين خلال ثلاث سنوات فقط، مما أدى إلى انهيار الصادرات اليابانية وتوقف النمو.
في محاولة للتغلب على الأزمة، خفض البنك المركزي الياباني سعر الفائدة إلى 2.5%، مما أغرق السوق بالمال الرخيص. أدى ذلك إلى انفجار فقاعة اقتصادية ضخمة، حيث توجه المستثمرون إلى المضاربة على العقارات والأسهم بدلاً من الاستثمار في الإنتاج الحقيقي.
انهيار الفقاعة وبداية “العقود الضائعة”
بحلول عام 1990، انفجرت الفقاعة بشكل كارثي. خسرت البورصة تريليون دولار، وفقد سوق العقارات أكثر من ثلاثة تريليونات دولار من قيمته. بلغت الأجور ذروتها في تلك الفترة ولم تنتعش بشكل ملموس حتى عام 2024، مما يفسر حالة الركود التي عاشتها اليابان. كانت هذه البداية لما أطلق عليه لاحقاً “العقود الضائعة”.
أسباب هيكلية عمقت الأزمة
- بنوك “الزومبي”
بدلاً من السماح للبنوك المثقلة بالديون السامة بالإفلاس، تدخلت الحكومة لإنقاذها دون معالجة جذر المشكلة. استمرت هذه البنوك في إقراض شركات غير مربحة، مما خنق الابتكار وأدى إلى تجمد النمو.
- تحفيز اقتصادي غير فعال
أنفقت الحكومة اليابانية مليارات الدولارات على مشاريع بنية تحتية ريفية لم تُحدث فرقًا يذكر، بدلاً من توجيه الاستثمارات إلى المدن والقطاعات الواعدة. كانت العديد من هذه المشاريع مجرد صفقات سياسية، لا خططًا اقتصادية حقيقية.
- عوامل ثقافية وديموغرافية
ساهمت ثقافة العمل اليابانية التي تقدر الأقدمية وعدد ساعات العمل على حساب الكفاءة والابتكار في إعاقة التقدم. كما واجهت اليابان تحديًا ديموغرافيًا خطيرًا بسبب انخفاض معدلات المواليد ورفض استقبال المهاجرين، مما أدى إلى تزايد نسبة كبار السن (أكثر من 25% فوق 65 عامًا) وتراجع القوى العاملة منذ عام 1995.
بينما يُظهر المسار الاقتصادي لليابان كيف يمكن لمجموعة معقدة من العوامل – بدءًا من القرارات السياسية الكبرى وصولاً إلى الثقافة والديموغرافيا – أن تشكل مستقبل أمة بأكملها، وأن النجاح الاقتصادي لا يُعد ضمانة للاستقرار على المدى الطويل.