الثلاثاء, أكتوبر 28, 2025
الرئيسية » لو بون مارشيه: كيف حوّل الحديد والزجاج باريس إلى عاصمة الاستهلاك ومركزاً لتحرر المرأة؟

لو بون مارشيه: كيف حوّل الحديد والزجاج باريس إلى عاصمة الاستهلاك ومركزاً لتحرر المرأة؟

لو بون مارشيه: كيف حوّل الحديد والزجاج باريس إلى عاصمة الاستهلاك ومركزاً لتحرر المرأة؟
لو بون مارشيه وقت افتتاحه

في قلب باريس، المدينة التي نفضت عن كاهلها غبار العصور الوسطى بفضل رؤية نابليون الثالث ومهندسيه، بدأت ملامح عصر جديد تتشكل. لم تكن عملية التحديث التي بدأت في عام 1848، بتحويل الأزقة الضيقة والمزدحمة إلى بوليفارات (شوارع واسعة ومستقيمة وموجهة)، مجرد إعادة تخطيط حضري، بل كانت إيذاناً بثورة اجتماعية واقتصادية شاملة. هذه الشرايين الحضرية الجديدة لم تهدف فقط لتسهيل حركة القوات والمدفعية كما يشاع، بل أطلقت العنان لحركة البضائع والأفراد، ممهدة الطريق لكفاءة جديدة في الحياة الباريسية المتسارعة، والتي كانت تتغير بالفعل تحت وطأة الثورة الصناعية.

لو بون مارشيه: كيف حوّل الحديد والزجاج باريس إلى عاصمة الاستهلاك ومركزاً لتحرر المرأة؟

إن وفرة المنتجات التي أغرقت الأسواق بفضل الصناعة، بعد أن كانت المقتنيات حكراً على القلة، خلقت طبقة وسطى صاعدة تمتلك القدرة على الشراء وتتطلع إلى محاكاة نمط حياة الأرستقراطية. كان المواطن الباريسي يتجول في الشوارع الجديدة، يرى في واجهات المتاجر الجديدة انعكاساً لطموحاته، محفزاً برغبة قوية في الاستهلاك والانتماء إلى هذا العصر المزدهر.

 

في خضم هذا التحول، لم يكن رجل الأعمال الطموح أريستيد بوشيكو يرى مجرد شوارع ومتاجر، بل كان يرى طبقة وسطى تتشكل، طبقة لديها الأحلام والقدرة الشرائية. أدرك بوشيكو، أن هذه الفئة المتزايدة هي منجم الذهب الحقيقي.

لو بون مارشيه: كيف حوّل الحديد والزجاج باريس إلى عاصمة الاستهلاك ومركزاً لتحرر المرأة؟

أرستيد بوشيكو وزوجته

ميلاد أول متجر متعدد الأقسام (المول) في العالم

بوشيكو، الذي بدأ شراكته في محل متواضع عام 1852 يحمل اسم لو بون مارشيه (Le Bon Marché)، أي السوق الجيدة أو الصفقة الجيدة، أدرك أن نجاحه لا يكمن في البضائع فحسب، بل في تغيير قواعد اللعبة التجارية برمتها. المحل الأولي، الذي كان يضم 12 موظفاً على مساحة 300 متر، ويبيع الدانتيل والملايات وأغطية السرير والأزرار والمظلات، كان مجرد نقطة انطلاق لرؤية أكثر عبقرية.

 

كانت خطة بوشيكو محورها فئة تم تهميشها في المجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر: النساء. في مجتمع ساد فيه اعتقاد خاطئ بأن حجم مخ الرجل الأكبر يجعله الجنس الأذكى، العقلاني والأقوى، وأن الستات أقل ذكاءً وعقلانية وأضعف، بل وكان يُعتقد أن التحفيز الذهني الكثير خطر على صحتهن النفسية، كان يُنصح معظم المتزوجات بالبقاء في المنزل، بينما كانت صورة المرأة التي تتجول في الأماكن العامة مرتبطة بالطبقات الأقل احتراماً.

 

قرر بوشيكو أن يكسر هذه القاعدة الاجتماعية الصارمة. لم يرد أن يفتح متجراً يبيع البضائع للستات وحسب. بل أراد أن يخلق مكاناً للمرأة بامتياز، مكان يجعلها تشعر بالترحيب والمتعة، يملأ وقتها ويدفعها للعودة باستمرار. مكان تجد فيه كل ما تريده، بل وكل ما لم تكن تعلم أنها تريده. كان يهدف إلى تحويل فعل التسوق من مجرد ضرورة إلى تجربة ممتعة ومهيمنة.

لو بون مارشيه: كيف حوّل الحديد والزجاج باريس إلى عاصمة الاستهلاك ومركزاً لتحرر المرأة؟

لو بون مارشيه وقت افتتاحه

لو بون مارشيه: كيف حوّل الحديد والزجاج باريس إلى عاصمة الاستهلاك ومركزاً لتحرر المرأة؟

Paris, France, ca. 1928. Au Bon March

تحفة معمارية تجسد روح العصر

في حين تحولت رؤية بوشيكو إلى واقع مادي مذهل في عام 1869، عندما بدأ في بناء مكان ضخم جديد على الضفة اليسرى (Rive Gauche) لنهر السين. وهو الموقع الذي نعرفه اليوم. كان هذا المبنى، الذي حمل نفس الاسم “لو بون مارشيه”، أكبر بكثير من المحل القديم.

 

لتحقيق هذا الحلم المعماري، استعان بوشيكو بأحدث التقنيات الهندسية وتعاون مع المصممين والمهندسين المعماريين البارزين. تم استخدام هياكل حديدية ضخمة في البناء، وهي تقنية ثورية سمحت ببناء مبنى عملاق وعالٍ. وسمحت أيضاً بتركيب قطع ضخمة من الزجاج في الواجهات، وهو ما يعد دليلاً آخر على تأثير الثورة الصناعية. التي سهلت إنتاج الحديد والزجاج بكميات كبيرة وبجودة أعلى.

كانت واجهات الزجاج الضخمة تسمح لضوء النهار بالدخول من كل مكان في المبنى. مما يمنح المتسوقين رؤية واضحة للسلع دون الحاجة لإضاءة صناعية كثيرة (في البداية على الأقل). كما كانت الساحة الداخلية للمبنى واسعة ومرتفعة وتغطيها قبة زجاجية مزخرفة (Skylight). تضفي سحراً ومهابة على المكان، وتسمح لأكبر عدد من المتسوقين بالانتشار والتحرك بحرية داخل المول الذي لم يكن العالم قد عرفه بهذا الشكل من قبل. وقد وصف المبنى الجديد وقتها بأنه قفص حديدي عملاق يجسد روح العصر. وهنا يجب التنويه إلى أن المهندس المعماري كان لويس شارل بوايلي، ثم تعاون لاحقًا مع المهندس غوستاف إيفل مصمم برج إيفل. وليس هو نفسه مصمم برج بيزا المائل أو برج خليفة كما ذكر خطأ.

 

افتتاح عالم جديد

في عام 1887 تم افتتاح مبنى لو بون مارشيه الجديد. لم يكن مجرد متجر، بل كان بمثابة افتتاح عالم جديد. عالم المولات الحديثة، والمكان الذي يخلق فيه الاحتياج الحقيقي للاستهلاك. هذا المكان بشكله المهيب. ومساحته الواسعة كان يدعو إلى التجول والفرجة والشراء التلقائي.

 

بينما لم يتوقف التغيير عند التصميم المعماري فقط، بل شمل سياسات التسوق التي نعتبرها اليوم أمراً مفروغاً منه. لكنها كانت ثورة في ذلك الوقت. ومن بين هذه السياسات التي أدخلها بوشيكو:

الأسعار الثابتة والواضحة: بدلاً من المساومة التقليدية، كانت الأسعار محددة ومطبوعة على السلع. وهو ما منح المتسوق، وخاصة المرأة، شعوراً بالعدالة والراحة والأمان.

إمكانية التصفح دون إزعاج: كما سمح للزبائن، وخاصة النساء، بالتجول بحرية بين الأقسام دون ضغط من البائعين للشراء، وهو ما حول التسوق إلى تجربة ترفيهية بحد ذاتها.

سياسة الإرجاع أو التبديل (الضمان): لأول مرة، سمح المتجر للزبون بإعادة البضاعة واسترداد ثمنها. وهو ما بنى الثقة بين البائع والمشتري بشكل غير مسبوق.

تعدد الأقسام (Department Store): جمع المتجر منتجات متنوعة في مكان واحد. (ملابس، أقمشة، أدوات منزلية، وغيرها). مما اختصر على المرأة عناء التنقل بين المتاجر المتخصصة المختلفة.

المعارض الترويجية والترفيهية: لم يكتفِ بوشيكو بالبضائع، بل أضاف للمتجر قاعات للقراءة والموسيقى وأماكن ترفيهية للأطفال. ليتحول المتجر إلى وجهة اجتماعية وثقافية تستغرق وقتاً طويلاً.

باختصار، حوّل أريستيد بوشيكو التسوق إلى فعل اجتماعي وتجربة شاملة، مستهدفاً بشكل رئيسي الطبقة الوسطى والنساء. ليجعل من “لو بون مارشيه” ليس فقط أول متجر متعدد الأقسام في العالم، بل أيضاً معلماً حقيقياً لـ ثقافة الاستهلاك الحديثة. ومؤسسة لعبت دوراً غير مباشر في إعادة تعريف مكانة المرأة في المجتمع الفرنسي عبر إخراجها من المنزل وتوفير مساحة عامة محترمة وممتعة لها. لقد كان مولود باريس العظيم “لو بون مارشيه” تجسيداً مادياً لروح العصر الصناعي الجديد.

NightlyNews24 موقع إخباري عربي يقدم أخبار السياسة، الاقتصاد، والرياضة بتغطية يومية دقيقة وتحليلات موجزة لمتابعة الأحداث الراهنة بأسلوب مهني وموضوعي.

النشرة البريدية

اشترك الآن في نشرتنا البريدية وكن أول من يتابع آخر الأخبار والتحديثات الحصرية مباشرة إلى بريدك الإلكتروني!

آخر الأخبار

@2021 – جميع الحقوق محفوظة NightlyNews24